الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب علامات النبوة في الإسلام) العلامات جمع علامة، وعبر بها المصنف لكون ما يورده من ذلك أعم من المعجزة والكرامة، والفرق بينهما أن المعجزة أخص لأنه يشترط فيها أن يتحدى النبي صلى الله عليه وسلم من يكذبه بأن يقول: إن فعلت كذلك أتصدق بأني صادق؟ أو يقول من يتحداه: لا أصدقك حتى تفعل كذا. ويشترط أن يكون المتحدي به مما يعجز عنه البشر في العادة المستمرة. وقد وقع النوعان للنبي صلى الله عليه وسلم في عدة مواطن، وسميت المعجزة لعجز من يقع عندهم ذلك عن معارضتها، والهاء فيها للمبالغة، أو هي صفة محذوف. وأشهر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم القرآن لأنه صلى الله عليه وسلم تحدى به العرب - وهم أفصح الناس لسانا وأشدهم اقتدارا على الكلام - بأن يأتوا بسورة مثله فعجزوا مع شدة عداوتهم له وصدهم عنه، حتى قال بعض العلماء: أقصر سورة في القرآن ووجوه إعجاز القرآن من جهة حسن تأليفه والتئام كلماته وفصاحته وإيجازه في مقام الإيجاز، وبلاغته ظاهرة جدا مع ما انضم إلى ذلك من حسن نظمه وغرابة أسلوبه، مع كونه على خلاف قواعد النظم والنثر، هذا إلى ما اشتمل عليه من الإخبار بالمغيبات مما وقع من أخبار الأمم الماضية مما كان لا يعلمه إلا أفراد من أهل الكتاب، ولم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع بأحد منهم ولا أخذ عنهم، وبما سيقع فوقع على وفق ما أخبر به في زمنه صلى الله عليه وسلم وبعده، هذا مع الهيبة التي تقع عند تلاوته والخشية التي تلحق سامعه وعدم دخول الملال والسآمة على قارئه وسامعه، مع تيسر حفظه لمتعلميه وتسهيل سرده لتاليه، ولا ينكر شيئا من ذلك إلا جاهل أو معاند، ولهذا أطلق الأئمة أن معظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، ومن أظهر معجزات القرآن إبقاؤه مع استمرار الإعجاز، وأشهر ذلك تحديه اليهود أن يتمنوا الموت فلم يقع ممن سلف منهم ولا خلف من تصدى لذلك ولا أقدم، مع شدة عداوتهم لهذا الدين وحرصهم على إفساده والصد عنه، فكان في ذلك أوضح معجزة. وأما ما عدا القرآن من نبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام وانشقاق القمر ونطق الجماد، فمنه ما وقع التحدي به ومنه ما وقع دالا على صدقة من غير سبق تحد، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده صلى الله عليه وسلم من خوارق العادات شيء كثير، كما يقطع بوجود جود حاتم وشجاعة علي، وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت مورد الآحاد مع أن كثيرا من المعجزات النبوية قد اشتهر وانتشر ورواه العدد الكثير والجم الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار، والعناية بالسير والأخبار، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه الرتبة لعدم عنايتهم بذلك، بل لو ادعى مدع أن غالب هذه الوقائع مفيدة للقطع بطريق نظري لما كان مستبعدا وهو أنه لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار في الجملة، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة ولا من بعدهم مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك ولا الإنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم كالناطق، لأن مجموعهم محفوظ من الإغضاء على الباطل. وعلى تقدير أن يوجد من بعضهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئا من ذلك فإنما هو من جهة توقف في صدق الراوي أو تهمته بكذب أو توقف في ضبطه ونسبته إلى سوء الحفظ أو جواز الغلط، ولا يوجد من أحد منهم طعن في المروي كما وجد منهم في غير هذا الفن من الأحكام والآداب وحروف القرآن ونحو ذلك، وقد قرر القاضي عياض ما قدمته من وجود إفادة القطع في بعض الأخبار عند بعض العلماء دون بعض تقريرا حسنا، ومثل ذلك بأن الفقهاء من أصحاب مالك قد تواتر عندهم النقل أن مذهبه إجزاء النية من أول رمضان خلافا للشافعي في إيجابه لها في كل ليلة، وكذا إيجاب مسح جميع الرأس في الوضوء خلافا للشافعي في إجزاء بعضها، وأن مذهبهما معا إيجاب النية في أول الوضوء واشتراط الولي في النكاح خلافا لأبي حنيفة، وتجدد العدد الكثير والجم الغفير من الفقهاء من لا يعرف ذلك من خلافهم فضلا عمن لم ينظر في الفقه وهو أمر واضح والله أعلم. وذكر النووي في مقدمة شرح مسلم أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تزيد على ألف ومائتين وقال البيهقي في " المدخل " بلغت ألفا. وقال الزاهدي من الحنفية: ظهر على يديه ألف معجزة، وقيل: ثلاثة آلاف، وقد اعتنى بجمعها جماعة من الأئمة كأبي نعيم والبيهقي وغيرهما. قوله: (في الإسلام) أي من حين المبعث وهلم جرا دون ما وقع قبل ذلك، قد جمع ما وقع من ذلك قبل المبعث بل قبل المولد الحاكم في " الإكليل " وأبو سعيد النيسابوري في " شرف المصطفى " وأبو نعيم والبيهقي في " دلائل النبوة " وسيأتي منه في هذا الكتاب في قصة زيد بن عمرو بن نفيل في خروجه في ابتغاء الدين، ومضى منه قصة ورقة بن نوفل وسلمان الفارسي، وقدمت في " باب أسماء النبي صلى الله عليه وسلم قصة محمد بن عدي بن ربيعة في سبب تسميته محمدا، ومن مشهور ذلك قصة بحيرا الراهب، وهي في السيرة لابن إسحاق، وروى أبو نعيم في " الدلائل " من طريق شعيب أي ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبيه عن جده قال: " كان بمر الظهران راهب يدعى عيصا " فذكر الحديث وفيه أنه " أعلم عبد الله بن عبد المطلب ليلة ولد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نبي هذه الأمة " وذكر له أشياء من صفته. وروى الطبراني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن أبيه " أن أمية بن أبي الصلت قال له: إني أجد في الكتب صفة نبي يبعث من بلادنا، وكنت أظن أني هو، ثم ظهر لي أنه من بني عبد مناف، قال فنظرت فلم أجد فيهم من هو متصف بأخلاقه إلا عتبة بن ربيعة، إلا أنه جاوز الأربعين ولم يوح إليه فعرفت أنه غيره. قال أبو سفيان: فلما بعث محمد قلت لأمية عنه، فقال: أما إنه حق فاتبعه، فقلت له: فأنت ما يمنعك؟ قال: الحياء من نسيات ثقيف أني كنت أخبرهن أني هو ثم أصير تبعا لفتى من بني عبد مناف " وروى ابن أبي إسحاق من حديث سلمة بن سلامة بن وقش، وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان من طريقه قال: " كان لنا جار من اليهود بالمدينة، فخرج علينا قبل البعثة بزمان فذكر الحشر والجنة والنار، فقلنا له: وما آية ذلك؟ قال خروج نبي يبعث من هذه البلاد - وأشار إلى مكة - فقالوا: متى يقع ذلك؟ قال فرمى بطرفه إلى السماء - وأنا أصغر القوم - فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، قال فما ذهبت الأيام والليالي حتى بعث الله نبيه وهو حي فآمنا به وكفر هو بغيا وحسدا " وروى يعقوب بن سفيان بإسناد حسن عن عائشة قالت: " كان يهودي قد سكن مكة، فلما كانت الليلة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلم. قال: فإنه ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة، بين كتفيه علامة، لا يرضع ليلتين لأن عفريتا من الجن وضع يده على فمه، فانصرفوا فسألوا فقيل لهم: قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام، فذهب اليهودي معهم إلى أمه فأخرجته لهم، فلما رأى اليهودي العلامة خر مغشيا عليه وقال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل، يا معشر قريش أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب". قلت: ولهذه القصص نظائر يطول شرحها. ومما ظهر من علامات نبوته عند مولده وبعده ما أخرجه الطبراني عن عثمان بن أبي العاص الثقفي عن أمه أنها حضرت آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم فلما ضربها المخاض قالت: فجعلت أنظر إلى النجوم تدلى حتى أقول لتقعن علي، فلما ولدت خرج منها نور أضاء له البيت والدار. وشاهده حديث العرباض بن سارية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك: إني دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين، وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام " أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم وفي حديث أبي أمامة عند أحمد نحوه. وأخرج ابن أبي إسحاق عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه وقالت: " أضاءت له بصرى من أرض الشام " وروى ابن حبان والحاكم في قصة رضاعه صلى الله عليه وسلم من طريق ابن إسحاق بإسناده إلى حليمة السعدية الحديث بطوله، وفيه من العلامات كثرة اللبن في ثدييها، ووجود اللبن في شارفها بعد الهزال الشديد، وسرعة مشي حمارها، وكثرة اللبن في شياهها بعد ذلك، وخصب أرضها، وسرعة نباته، وشق الملكين صدره. وهذا الأخير أخرجه مسلم من حديث أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم جمعه فأعاده مكانه " الحديث. وفي حديث مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه وكان قد أتت عليه خمسون ومائة سنة قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم انكسر إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرافة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ما وقع، فسأل علماء أهل مملكته عن ذلك فأرسلوا إلى سطيح فذكر القصه بطولها أخرجها ابن السكن وغيره في " معرفة الصحابة". الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ فَأَدْلَجُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ وَجْهُ الصُّبْحِ عَرَّسُوا فَغَلَبَتْهُمْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ لَا يُوقَظُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَنَامِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ فَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ فَقَعَدَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ رَأْسِهِ فَجَعَلَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ وَصَلَّى بِنَا الْغَدَاةَ فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّ مَعَنَا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَنَا قَالَ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالصَّعِيدِ ثُمَّ صَلَّى وَجَعَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَكُوبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَدْ عَطِشْنَا عَطَشًا شَدِيدًا فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ سَادِلَةٍ رِجْلَيْهَا بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ فَقُلْنَا لَهَا أَيْنَ الْمَاءُ فَقَالَتْ إِنَّهُ لَا مَاءَ فَقُلْنَا كَمْ بَيْنَ أَهْلِكِ وَبَيْنَ الْمَاءِ قَالَتْ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَقُلْنَا انْطَلِقِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ وَمَا رَسُولُ اللَّهِ فَلَمْ نُمَلِّكْهَا مِنْ أَمْرِهَا حَتَّى اسْتَقْبَلْنَا بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَتْهُ بِمِثْلِ الَّذِي حَدَّثَتْنَا غَيْرَ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا مُؤْتِمَةٌ فَأَمَرَ بِمَزَادَتَيْهَا فَمَسَحَ فِي الْعَزْلَاوَيْنِ فَشَرِبْنَا عِطَاشًا أَرْبَعِينَ رَجُلًا حَتَّى رَوِينَا فَمَلَأْنَا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنَا وَإِدَاوَةٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ نَسْقِ بَعِيرًا وَهِيَ تَكَادُ تَنِضُّ مِنْ الْمِلْءِ ثُمَّ قَالَ هَاتُوا مَا عِنْدَكُمْ فَجُمِعَ لَهَا مِنْ الْكِسَرِ وَالتَّمْرِ حَتَّى أَتَتْ أَهْلَهَا قَالَتْ لَقِيتُ أَسْحَرَ النَّاسِ أَوْ هُوَ نَبِيٌّ كَمَا زَعَمُوا فَهَدَى اللَّهُ ذَاكَ الصِّرْمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَأَسْلَمَتْ وَأَسْلَمُوا الشرح: حديث عمران بن حصين في قصة المرأة صاحبة المزادتين، والمعجزة فيها تكثير الماء القليل ببركته صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أبواب التيمم، وقوله في هذه الرواية: " إيه " بكسر الهمزة وسكون التحتانية، وفي بعض النسخ " أيها " بالتنوين مع الفتح، وحكى الجوهري جواز فتح الهمزة في هذه. وقوله: (مؤتمة) أي ذات أيتام. وقوله: (فمسح بالعزلاوين) في رواية الكشميهني " في العزلاوين " وهما تثنية عزلاء بسكون الزاي وبالمد وهو فم القربة والجمع عزالي بكسر اللام الخفيفة، وكذلك وقع في الرواية المتقدمة. قوله: (فشربنا عطاشا أربعون رجلا) أي ونحن حينئذ أربعون. وفي رواية الكشميهني " أربعين " بالنصب وتوجيهها ظاهر. وقوله: و " هي تكاد تبض " بكسر الموحدة بعدها معجمة ثقيلة أي تسيل، وحكى عياض عن بعض الرواة بالصاد المهملة من البصيص وهو اللمعان، ومعناه مستبعد هنا، في نفس الحديث " تكاد تبض من الملء " بكسر الميم وسكون اللام بعدها همزة، فكونها تكاد تسيل من الملء ظاهر، وأما كونها تلمع من الملء فبعيد. وقال ابن التين: معنى قوله: " تبض " بالمعجمة أي تشق، يقال بض الماء من العين إذا نبع، وكذا بض العرق، قال: وفيه روايات أخرى: روي " تنض " بنون وضاد معجمة، وروي " تيصر " بمثناة مفتوحة بعدها تحتانية ساكنة وصاد مهملة ثم راء. قال وذكر الشيخ أبو الحسن أن معناه تنشق، قال ومنه صير الباب أي شق الباب، ورده ابن التين بأن صير عينه حرف علة فكان يلزم أن يقول تصور، وليس هذا في شيء من الروايات. ورأيت في رواية أبي ذر عن الكشميهني " تنصب " بفتح المثناة وسكون النون وفتح الصاد المهملة بعدها موحدة، فتوافق الرواية الأول لأنها بمعنى تسيل. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ قَالَ قَتَادَةُ قُلْتُ لِأَنَسٍ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ ثَلَاثَ مِائَةٍ أَوْ زُهَاءَ ثَلَاثِ مِائَةٍ الشرح: عن أنس في نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، أورده من أربعة طرق: من رواية قتادة وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة والحسن البصري وحميد، وتقدم عنده في الطهارة من رواية ثابت كلهم عن أنس وعند بعضهم ما ليس عند بعض. وظهر لي من مجموع الروايات أنهما قصتان في موطنين للتغاير في عدد من حضر، وهي مغايرة واضحة يبعد الجمع فيها، وكذلك تعيين المكان الذي وقع ذلك فيه، لأن ظاهر رواية الحسن أن ذلك كان في سفر، بخلاف رواية قتادة فإنها ظاهرة في أنها كانت بالمدينة، وسيأتي في غير حديث أنس أنها كانت في مواطن أخر. قال عياض: هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير عن الجم الغفير عن الكافة متصلة بالصحابة وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومجمع العساكر، ولم يرد عن أحد منهم إنكار على راوي ذلك، فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته. وقال القرطبي: قضية نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم تكررت منه في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي. قلت: أخذ كلام عياض وتصرف فيه، قال: ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم. وحديث نبع الماء جاء من رواية أنس عند الشيخين وأحمد وغيرهم من خمسة طرق، وعن جابر بن عبد الله من أربعة طرق، وعن ابن مسعود عند البخاري والترمذي، وعن ابن عباس عند أحمد والطبراني من طريقين، وعن ابن أبي ليلى والد عبد الرحمن عند الطبراني، فعدد هؤلاء الصحابة ليس كما يفهم من إطلاقهما، وأما تكثير الماء يلمسه بيد أو يتفل فيه أو يأمر بوضع شيء فيه كسهم من كنانته فجاء في حديث عمران بن حصين في الصحيحين، وعن البراء بن عازب عند البخاري وأحمد من طريقين، وعن أبي قتادة عند مسلم، وعن أنس عند البيهقي في الدلائل"، وعن زياد بن الحارث الصدائي عنده، وعن حبان بن بح بضم الموحدة وتشديد المهملة الصدائي أيضا، فإذا ضم هذا إلى هذا بلغ الكثرة المذكورة أو قاربها. وأما من رواها من أهل القرن الثاني فهم أكثر عددا، وإن كان شطر طرقه أفرادا. وفي الجملة يستفاد منها الرد على ابن بطال حيث قال: هذا الحديث شهده جماعة كثيرة من الصحابة إلا أنه لم ير وإلا من طريق أنس، وذلك لطول عمره وتطلب الناس العلو في السند انتهى. وهو ينادي عليه بقلة الاطلاع والاستحضار لأحاديث الكتاب الذي شرحه وبالله التوفيق. قال القرطبي: ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه، وقد نقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال: " نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه، لأن خروج الماء من الحجارة معهود، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم " انتهى. وظاهر كلامه أن الماء نبع من نفس اللحم الكائن في الأصابع، ويؤيده قوله في حديث جابر الآتي " فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه " وأوضح منه ما وقع في حديث ابن عباس عند الطبراني " فجاءوا بشن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه ثم فرق أصابعه فنبع الماء من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عصا موسى، فإن الماء تفجر من نفس العصا فتمسكه به يقتضي أن الماء تفجر من بين أصابعه، ويحتمل أن يكون المراد أن الماء كان ينبع من بين أصابعه بالنسبة إلى رؤية الرائي، وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه يفور ويكثر وكفه صلى الله عليه وسلم في الماء، فرآه الرائي نابعا من بين أصابعه، والأول أبلغ في المعجزة، وليس في الأخبار ما يرده وهو أولى. قوله: (عن سعيد) هو ابن أبي عروبة. قوله: (عن أنس) لم أره من رواية قتادة إلا معنعنا، لكن بقية الخبر تدل على أنه سمعه من أنس لقوله: " قلت كم كنتم " لكن أخرجه أبو نعيم في " الدلائل " من طريق مكي بن إبراهيم عن سعيد فقال: " عن قتادة عن الحسن عن أنس " فهذا لو كان محفوظا اقتضى أن في رواية الصحيح انقطاعا، وليس كذلك لأن مكي بن إبراهيم ممن سمع من سعيد بن أبي عروبة بعد الاختلاط. قوله: (وهو بالزوراء) بتقديم الزاي على الراء وبالمد مكان معروف بالمدينة عند السوق. وزعم الداودي أنه كان مرتفعا كالمنارة، وكأنه أخذه من أمر عثمان بالتأذين على الزوراء، وليس ذلك بلازم، بل الواقع أن المكان الذي أمر عثمان بالتأذين فيه كان بالزوراء لا أنه الزوراء نفسها ووقع في رواية همام عن قتادة عن أنس " شهدت النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عند الزوراء، أو عند بيوت المدينة " أخرجه أبو نعيم. وعند أبي نعيم من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس أنه هو الذي أحضر الماء، وأنه أحضره إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بيت أم سلمة، وأنه رده بعد فراغهم إلى أم سلمة وفيه قدر ما كان فيه أولا. ووقع عنده في رواية عبيد الله بن عمر عن ثابت عن أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء، فأتى من بعض بيوتهم بقدح صغير " ووقع في حديث جابر الآتي التصريح بأن ذلك كان في سفر ففي رواية نبيح العنزي عند أحمد عن جابر قال: " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضرت الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما في القوم من طهور؟ فجاء رجل بفضلة في إداوة فصبه في قدح، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن القوم أتوا ببقية الطهور فقالوا: تمسحوا تمسحوا، فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: على رسلكم، فضرب بيده في القدح في جوف الماء ثم قال: أسبغوا الطهور، قال جابر: فو الذي أذهب بصري لقد رأيت الماء يخرج من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توضؤا أجمعون، قال حسبته قال: كنا مائتين وزيادة " وجاء عن جابر قصة أخرى أخرجها مسلم من وجه آخر عنه في أواخر الكتاب في حديث طويل فيه " أن الماء الذي أحضروه له كان قطرة في إناء من جلد لو أفرغها لشربها يابس الإناء، وأنه لم يجد في الركب قطرة ماء غيرها، قال فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم وغمز بيده ثم قال: ناد بجفنة الركب فجيء بها؛ فقال بيده في الجفنة فبسطها ثم فرق أصابعه ووضع تلك القطرة في قعر الجفنة فقال: خذ يا جابر فصب علي وقل بسم الله، ففعلت، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلأت، فأتى الناس فاستقوا حتى رووا، فرفع يده من الجفنة وهي ملأى " وهذه القصة أبلغ من جميع ما تقدم لاشتمالها على قلة الماء وعلى كثرة من استقى منه. قوله: (زهاء ثلاثمائة) هو بضم الزاي وبالمد أي قدر ثلاثمائة مأخوذة من زهوت الشيء إذا حصرته. ووقع عند الإسماعيلي من طريق خالد بن الحارث عن سعيد قال: " ثلاثمائة، بالجزم بدون قوله " زهاء " والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ فَقَالَ مَا لَكُمْ قَالُوا لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا قُلْتُ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً الشرح: حديث جابر في نبع الماء أيضا: قوله: (عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة) كذا وقع في هذه الطريق، ووقع في الأشربة من طريق الأعمش عن سالم أن ذلك كان لما حضرت صلاة العصر، وسيأتي شرح الحديث مستوفى في غزوة الحديبية إن شاء الله تعالى. وقوله: (جهش) هو بفتح الجيم والهاء بعدها معجمة أي أسرعوا لأخذ الماء. وفي رواية الكشميهني " فجهش " بزيادة فاء في أوله، وقوله: " فجعل الماء يثور " كذا للأكثر بمثلثة، وللكشميهني بالفاء وهما بمعنى. الحديث: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فَنَزَحْنَاهَا حَتَّى لَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَجَّ فِي الْبِئْرِ فَمَكَثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ اسْتَقَيْنَا حَتَّى رَوِينَا وَرَوَتْ أَوْ صَدَرَتْ رَكَائِبُنَا الشرح: حديث البراء في تكثير الماء ببئر الحديبية، وسيأتي الكلام عليه أيضا في غزوة الحديبية وأبين هناك التوفيق بينه وبين حديث جابر الذي قبله إن شاء الله تعالى. وقوله: (روينا) بكسر الواو من الري. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ قَالَتْ نَعَمْ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِطَعَامٍ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ مَعَهُ قُومُوا فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا الشرح: حديث أنس في تكثير الطعام القليل. قوله: (قال أبو طلحة) هو زيد بن سهل الأنصاري زوج أم سليم والدة أنس، وقد اتفقت الطرق على أن الحديث المذكور من مسند أنس، وقد وافقه على ذلك أخوه لأمه عبد الله بن أبي طلحة فرواه مطولا عن أبيه أخرجه أبو يعلى من طريقه بإسناد حسن، وأوله عن أبي طلحة قال: " دخلت المسجد فعرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، الحديث، والمراد بالمسجد الموضع الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه حين محاصرة الأحزاب للمدينة في غزوة الخندق. قوله: (ضعيفا أعرف فيه الجوع) فيه العمل على القرائن. ووقع في رواية مبارك بن فضالة عن بكر بن عبد الله وثابت عن أنس عند أحمد " أن أبا طلحة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طاويا"، وعند أبي يعلى من طريق محمد بن سيرين عن أنس " أن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام، فذهب فأجر نفسه بصاع من شعير بعمل بقية يومه ذلك ثم جاء به، الحديث. وفي رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة وهو أخو إسحاق راوي حديث الباب عن أنس عند مسلم وأبي يعلى قال: " رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا يتقلب ظهرا لبطن " وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عند مسلم أيضا عن أنس قال: " جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم وقد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه فقالوا من الجوع، فذهبت إلى أبي طلحة فأخبرته، فدخل على أم سليم فقال: هل من شيء " الحديث. وفي رواية محمد بن كعب عن أنس عند أبي نعيم " جاء أبو طلحة إلى أم سليم فقال: أعندك شيء، فإني مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء وقد ربط على بطنه حجرا من الجوع". قوله: (فأخرجت أقراصا من شعير) في رواية محمد بن سيرين عن أنس عند أحمد قال: " عمدت أم سليم إلى نصف مد من شعير فطحنته " وعند المصنف من هذا الوجه ومن غيره عن أنس أن أمه أم سليم " عمدت إلى مد من شعير جرشته ثم عملته " وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس عند أحمد ومسلم " أتى أبو طلحة بمد من شعير فأمر به فصنع طعاما " ولا منافاة بين ذلك لاحتمال أن تكون القصة تعددت وأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، ويمكن الجمع بأن يكون الشعير في الأصل كان صاعا فأفردت بعضه لعيالهم وبعضه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على التعدد ما بين العصيدة والخبز المفتوت الملتوت بالسمن من المغايرة، وقد وقع لأم سليم في شيء صنعته للنبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش قريب من هذه القصة من تكثير الطعام وإدخال عشرة عشرة كما سيأتي في مكانه في الوليمة من كتاب النكاح. ووقع عند أحمد في رواية ابن سيرين عن أنس " عمدت أم سليم إلى نصف مد من شعير فطحنته، ثم عمدت إلى عكة فيها شيء من سمن فاتخذت منه خطيفة " الحديث والخطيفة هي العصيدة وزنا ومعنى، وهذا بعينه يأتي للمصنف في الأطعمة. قوله: (ولائتني ببعضه) أي لفتني به يقال لاث العمامة على رأسه أي عصبها، والمراد أنها لفت بعضه على رأسه وبعضه على إبطه. ووقع في الأطعمة للمصنف عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك في هذا الحديث " فلفت الخبز ببعضه ودست الخبز تحت ثوبي وردتني ببعضه " تقول دس الشيء يدسه دسا إذا أدخله في الشيء بقهر وقوة. قوله: (فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم آرسلك أبو طلحة فقلت نعم قال بطعام قلت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه قوموا) ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله فلذلك قال لمن عنده قوموا، وأول الكلام يقتضي أن أم سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس، فيجمع بأنهما أرادا بإرسال الخبز مع أنس أن يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فيأكله، فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم استحيى وظهر له أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم معه وحده إلى المنزل فيحصل مقصودهم من إطعامه، ويحتمل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله، عهد إليه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي صلى الله عليه وسلم وحده خشية أن لا يكفيهم ذلك الشيء هو ومن معه، وقد عرفوا إيثار النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يأكل وحده، وقد وجدت أن أكثر الروايات تقتضي أن أبا طلحة استدعى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة، ففي رواية سعد بن سعيد عن أنس " بعثني أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأدعوه وقد جعل له طعاما " وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس " أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبي صلى الله عليه وسلم لنفسه خاصة، ثم أرسلتني إليه " وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس " فدخل أبو طلحة على أمي فقال: هل من شيء؟ فقالت: نعم، عندي كسر من خبز، فإن جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه، وإن جاء أحد معه قل عنهم " وجميع ذلك عند مسلم. وفي رواية مبارك بن فضالة المذكورة أن أبا طلحة قال: " اعجنيه وأصلحيه عسى أن ندعو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل عندنا، ففعلت، فقالت: ادع رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس عند أبي نعيم وأصله عند مسلم " فقال لي أبو طلحة: يا أنس اذهب فقم قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قام فدعه حتى يتفرق أصحابه، ثم ابتعه حتى إذا قام على عتبة بابه فقل له: إن أبي يدعوك". وفي رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة عند أبي يعلى عن أنس " قال لي أبو طلحة: اذهب فادع رسول الله صلى الله عليه وسلم " وعند المصنف من رواية ابن سيرين في الأطعمة عن أنس " ثم بعثني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وهو في أصحابه فدعوته " وعند أحمد من رواية النضر بن أنس عن أبيه " قالت لي أم سليم: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: " إن رأيت أن تغدى عندنا فافعل " وفي رواية عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أنس عند البغوي " فقال أبو طلحة اذهب يا بني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فادعه. قال فجئته فقلت له: إن أبي يدعوك " الحديث. وفي رواية محمد بن كعب " فقال يا بني اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعه، ولا تدع معه غيره ولا تفضحني". قوله (آرسلك أبو طلحة) بهمزة ممدودة للاستفهام. وفي رواية محمد بن كعب " فقال للقوم انطلقوا فانطلقوا وهم ثمانون رجلا " وفي رواية يعقوب " فلما قلت له إن أبي يدعوك قال لأصحابه: يا هؤلاء تعالوا، ثم أخذ بيدي فشدها، ثم أقبل بأصحابه حتى إذا دنوا أرسل يدي فدخلت، وأنا حزين لكثرة من جاء معه". قوله: (فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم) أي قدر ما يكفيهم (فقالت: الله ورسوله أعلم) كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمدا ليظهر الكرامة في تكثير ذلك الطعام، ودل ذلك على فطنة أم سليم ورجحان عقلها. وفي رواية مبارك بن فضالة " فاستقبله أبو طلحة فقال: يا رسول الله ما عندنا إلا قرص عملته أم سليم " وفي رواية سعد بن سعيد " فقال أبو طلحة: " إنما صنعت لك شيئا " ونحوه في رواية ابن سيرين. وفي رواية عمرو بن عبد الله " فقال أبو طلحة: إنما هو قرص فقال: إن الله سيبارك فيه " ونحوه في رواية عمرو بن يحيى المازني. وفي رواية يعقوب " فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى، فقال: ادخل فإن الله سيبارك فيما عندك " وفي رواية النضر بن أنس عن أبيه " فدخلت على أم سليم وأنا مندهش " وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى أن أبا طلحة قال: " يا أنس فضحتنا " وللطبراني في الأوسط " فجعل يرميني بالحجارة". قوله: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلمي يا أم سليم ما عندك) كذا لأبي ذر عن الكشميهني، ولغيره " هلم " وهي لغة حجازية، هلم عندهم لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع، ومنه قوله تعالى: قوله: (وعصرت أم سليم عكة فأدمته) أي صيرت ما خرج من العكة له إداما، والعكة بضم المهملة وتشديد الكاف إناء من جلد مستدير يجعل فيه السمن غالبا والعسل. وفي رواية مبارك بن فضالة " فقال هل من سمن؟ فقال أبو طلحة: قد كان في العكة سمن، فجاء بها فجعلا يعصرانها حتى خرج، ثم مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم به سبابته ثم مسح القرص فانتفخ وقال: بسم الله، فلم يزل يصنع ذلك والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتميع " وفي رواية سعد بن سعيد " فمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا فيها بالبركة " وفي رواية النضر بن أنس " فجئت بها ففتح رباطها ثم قال: بسم الله، اللهم أعظم فيها البركة " وعرف بهذا المراد بقوله: " وقال فيها ما شاء الله أن يقول". قوله: (ثم قال ائذن لعشرة فأذن لهم) ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم دخل منزل أبي طلحة وحده وصرح بذلك في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى ولفظه " فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الباب فقال لهم اقعدوا ودخل " وفي رواية يعقوب " أدخل علي ثمانية؛ فما زال حتى دخل عليه ثمانون رجلا ثم دعاني ودعا أمي وأبا طلحة فأكلنا حتى شبعنا " انتهى. وهذا يدل على تعدد القصة، فإن أكثر الروايات فيها أنه أدخلهم عشرة عشرة سوى هذه فقال إنه أدخلهم ثمانية ثمانية، فالله أعلم. قوله: (فأكلوا) في رواية مبارك بن فضالة " فوضع يده وسط القرص وقال: كلوا بسم الله، فأكلوا من حوالي القصعة حتى شبعوا " وفي رواية بكر بن عبد الله " فقال لهم كلوا من بين أصابعي". قوله: (ثم خرجوا) في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى " ثم قال لهم قوموا وليدخل عشرة مكانكم". قوله: (والقوم سبعون أو ثمانون رجلا) كذا وقع بالشك، وفي غيرها بالجزم بالثمانين كما تقدم من رواية محمد بن كعب وغيره. وفي رواية مبارك بن فضالة " حتى أكل منه بضعة وثمانون رجلا " وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى " حتى فعل ذلك بثمانين رجلا، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وأهل البيت وتركوا سؤرا " أي فضلا. وفي روايته عند أحمد " قلت كم كانوا؟ قالوا: كانوا نيفا وثمانين قال: وأفضل لأهل البيت ما يشبعهم " ولا منافاة بينهما لاحتمال أن يكون ألغي الكسر، ولكن وقع في رواية ابن سيرين عند أحمد " حتى أكل منها أربعون رجلا وبقيت كما هي " وهذا يؤيد التغاير الذي أشرت إليه، وأن القصة التي رواها ابن سيرين غير القصة التي رواها غيره، وزاد مسلم في رواية عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة " وأفضل " ما بلغوا جيرانهم " وفي رواية عمرو بن عبد الله " وفضلت فضلة فأهديناها لجيراننا " ونحوه عند أبي نعيم من رواية عمارة بن غزية عن ربيعة عن أنس بلفظ " حتى أهدت أم سليم لجيراننا " ولمسلم في أواخر رواية سعد بن سعيد " حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل فأكل حتى شبع " وفي رواية له من هذا الوجه " ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة فعاد كما كان " وقد تقدم الكلام على شيء من فوائد هذا الحديث في أبواب المساجد من أوائل كتاب الصلاة. (تكملة) : سئلت في مجلس الإملاء لما ذكرت حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حكمة تبعيضهم، فقلت: يحتمل أن يكون عرف أن الطعام قليل وأنه في صحفة واحدة فلا يتصور أن يتحلق ذلك العدد الكثير، فقيل: لم لا دخل الكل وبعض لمن يسعه التحليق فكان أبلغ في اشتراك الجميع في الاطلاع على المعجزة، بخلاف التبعيض فإنه يطرقه احتمال تكرر وضع الطعام لصغر الصحفة؟ فقلت: يحتمل أن يكون ذلك لضيق البيت، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا نَعُدُّ الْآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ وَالْبَرَكَةُ مِنْ اللَّهِ فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ الشرح: حديث عبد الله - وهو ابن مسعود - في نبع الماء أيضا وتسبيح الطعام. قوله: (كنا نعد الآيات) أي الأمور الخارقة للعادات. قوله: (بركة وأنتم تعدونها تخويفا) الذي يظهر أنه أنكر عليهم عد جميع الخوارق تخويفا، وإلا فليس جميع الخوارق بركة، فإن التحقيق يقتضي عد بعضها بركة من الله كشبع الخلق الكثير من الطعام القليل وبعضها بتخويف من الله ككسوف الشمس والقمر، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده " وكأن القوم الذين خاطبهم عبد الله بن مسعود بذلك تمسكوا بظاهر قوله تعالى: قوله: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر) هذا السفر يشبه أن يكون غزوة الحديبية لثبوت نبع الماء فيها كما سيأتي. وقد وقع مثل ذلك في تبوك. ثم وجدت البيهقي في " الدلائل " جزم بالأول لكن لم يخرج ما يصح به. ثم وجدت في بعض طرق هذا الحديث عند أبي نعيم في " الدلائل " أن ذلك كان في غزوة خيبر، فأخرج من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن إبراهيم في هذا الحديث قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر فأصاب الناس عطش شديد، فقال: يا عبد الله التمس لي ماء، فأتيته بفضل ماء في إداوة " الحديث، فهذا أولى، ودل على تكرر وقوع ذلك حضرا أو سفرا. قوله: (فقال اطلبوا فضلة من ماء فجاءوا بإناء فيه ماء قليل) ووقع عند أبي نعيم في " الدلائل " من طريق أبي الضحى ابن عباس قال: " دعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالا بماء فطلبه فلم يجده، فأتاه بشن فيه ماء " الحديث وفي آخره " فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر " وهذا يشعر بأن ابن عباس حمله عن ابن مسعود، وأن القصة واحدة، ويحتمل، أن يكون كل من ابن مسعود وبلال أحضر الإداوة، فإن الشن بفتح المعجمة وبالنون هو الإداوة اليابسة. قوله: (حي على الطهور المبارك) أي هلموا إلى الطهور، وهو بفتح الطاء، والمراد به الماء، ويجوز ضمها والمراد الفعل أي تطهروا. قوله: (والبركة من الله) البركة مبتدأ والخبر من الله، وهو إشارة إلى أن الإيجاد من الله. ووقع في حديث عمار بن زريق عن إبراهيم في هذا الحديث " فجعلت أبادرهم إلى الماء أدخله في جوفي لقوله: " البركة من الله " وفي حديث ابن عباس " فبسط كفه فيه فنبعت تحت يده عين، فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر " والحكمة في طلبه صلى الله عليه وسلم في هذه المواطن فضلة الماء لئلا يظن أنه الموجد للماء، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن الله أجرى العادة في الدنيا غالبا بالتوالد، وأن بعض الأشياء يقع بينها التوالد وبعضها لا يقع، ومن جملة ذلك ما نشاهده من فوران بعض المائعات إذا خمرت وتركت، ولم تجر العادة في الماء الصرف بذلك، فكانت المعجزة بذلك ظاهرة جدا. قوله: (ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل) أي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غالبا، ووقع ذلك عند الإسماعيلي صريحا أخرجه عن الحسن بن سفيان عن بندار عن أبي أحمد الزبيري في هذا الحديث " كنا نأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيح الطعام " وله شاهد أورده البيهقي في " الدلائل " من طريق قيس بن أبي حازم قال: " كان أبو الدرداء وسليمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر قال له: بآية الصحفة، وذلك أنهما بينا هما يأكلان في صحفة إذ سبحت وما فيها " وذكر عياض عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: " مرض النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل بطبق قيه عنب ورطب فأكل منه فسبح". قلت وقد اشتهر تسبيح الحصى، ففي حديث أبي ذر قال " تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حصيات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا، ثم وضعهن في يد أبي بكر فسبحن، ثم وضعهن في يد عمر فسبحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن " أخرجه البـزار والطبراني في " الأوسط " وفي رواية الطبراني " فسمع تسبيحهن من في الحلقة " وفيه " ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن " مع أحد منا " قال البيهقي في " الدلائل " كذا رواه صالح بن أبي الأخضر - ولم يكن بالحافظ - عن الزهري عن سويد بن يزيد السلمي عن أبي ذر، والمحفوظ ما رواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: " ذكر الوليد بن سويد أن رجلا من بني سليم كان كبير السن ممن أدرك أبا ذر بالربذة ذكر له عن أبي ذر بهذا". (فائدة) : ذكر ابن الحاجب عن بعض الشيعة أن انشقاق القمر وتسبيح الحصى وحنين الجذع وتسليم الغزالة مما نقل آحادا مع توفر الدواعي على نقله، ومع ذلك لم يكذب رواتها. وأجاب بأنه استغنى عن نقلها تواترا بالقرآن. وأجاب غيره بمنع نقلها آحادا، وعلى تسليمه فمجموعها يفيد القطع كما تقدم في أول هذا الفصل والذي أقول إنها كلها مشتهرة عند الناس، وأما من حيث الرواية فليست على حد سواء، فإن حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كل منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق ذلك من أئمة الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة له في ذلك. وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها، وأما تسليم الغزالة فلم نجد له إسنادا لا من وجه قوي ولا من وجه ضعيف، والله أعلم.
|